سورة يونس - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بما كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} كالتعليل لوجوب العبادة، والجار والمجرور خبر مقدم و{مَرْجِعُكُمْ} مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي لا اسم مكان خلافًا لمن وهم فيه، و{جَمِيعًا} حال من الضمير المجرور لكونه فاعلًا في المعنى أي إليه تعالى رجوعكم مجتمعين لا إلى غيره سبحانه بالبعث {وَعَدَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنها وعد منه تعالى بالبعث وحيث كانت لا تحتمل غير الوعد كان ذلك من أفراد المصدر المؤكد لنفسه عندهم كما في قولك: له على ألف عرفًا، ويجوز أن يكون نصبًا على المصدرية لفعل محذوف أي وعد الله وعدًا، وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجوع الرجوع بالبعث لأن ما بالموت عزل عن الوعد كما أنه عزل عن الاجتماع فما وقع في بعض نسخ القاضي بالموت أو النشور ليس على ما ينبغي.
وقرىء {وَعَدَ الله} بصيغة الفعل ورفع الاسم الجليل على الفاعلية {حَقًّا} مصدر مؤكد لما دل عليه الأول وهو من قسم المؤكد لغيره لأن الأول ليس نصًا فيه فإن الوعد يحتمل الحقية والتخلف. وقيل: إنه منصوب بوعد على تقدير في وتشبيه بالظرف كقوله:
أفي الحق أني هائم بك مغرم ***
والأول أظهر، وقوله سبحانه: {أَنَّهُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} كالتعليل لما أفاده {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء بما يليقب. وقرأ أبو جعفر. والأعمش {أَنَّهُ} بفتح الهمزة على تقدير لأنه، وجوز أن يكون منصوبًا ثل ما نصب {وَعْدُ} أي وعد الله سبحانه بدء الخلق ثم إعادته أي إعادته بعد بدئه، ويكون الوعد واقعًا على المجموع لكن باعتبار الجزء الأخير لأن البدء ليس موعودًا، وأن يكوم مرفوعًا ثل ما نصب حقًا أي حق بدء الخلق ثم إعادته ويكون نظير قول الحماسي:
أحقا عباد الله أن لست رائيا *** رفاعة طول الدهر إلا توهما
وعن المرزوقي أنه خرجه على النصب على الظرفية وهو اما خبر مقدم أو ظرف معتمد وزعم أن ذلك مذهب سيبويه، وجوز أن يكون النصب بوعد الله على أنه مفعول له، والرفع بحقًا على أنه فاعل له، وظاهر كلام الكشاف يدل على أن الفعلين العاملين في المصدرين المذكورين هما اللذان يعملان فيما ذكر لا فعلان آخران مثلهما وحينئذ يفوت أمر التأكيد الذي ذكرناه لأن فاعل العامل بالمصدر المؤكد لابد أن يكون عائدًا على ما تقدمه مما أكده، وقرئ {حَقّ إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} وهو كقولك: حق أن زيدًا منطلق. وقرئ {يُبْدِىء} من أبدأ، ولعل المراد من الخلق نحو المكلفين لا ما يعم ذلك والجمادات، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد عن مجاهد أن معنى الآية يحيي الخلق ثم يميته ثم يحييه {لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي بالعدل وهو حال من فاعل {يَجْزِى} أي ملتبسًا بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، وإنما أجمل ذلك إيذانًا بأنه لا يفي به الحصر، ويرشح ذلك جعل ذاته الكريمة هي المجازية أو بقسطهم وعدلهم في أمورهم أو بإيمانهم؛ ورجح هذا بأنه أوفق بقوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بما كَانُواْ يَكْفُرُونَ} فإن معناه ويجزي الذين كفروا بشراب من ماء جار وقد انتهى حره وعذاب أليم بسبب كفرهم فيظهر التقابل بين سببي جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، مع أنه لا وجه لتخصيص العدل بجزاء المؤمنين بل جزاء الآخرين أولى به كما لا يخفى، وتكرير الإسناد بجعل الجملة الطرفية خبرًا للموصول لتقوية الحكم، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على مواظبتهم على الكفر، وتغيير النظم الكريم للمبالغة في استحقاقهم العقاب بجعله حقًا مقررًا لهم والإيذان بأن التعذيب عزل عن الانتظام في سلك العلة الغائية للإعادة بناء على تعلق ليجزي بها أولها وللبدى بناء على تعلقه بهما على التنازع، وإنما المنتظم في ذلك السلك هو الاثابة فهي المقصود بالذات والعقاب واقع بالعرض.


{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)}
{هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء} تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه سبحانه حين دبر أمورهم المتعلقة عاشهم هذا التدبر البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة عادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى، أو جعل إما عنى أنشأ وأبدع فضياء حال من مفعوله وإما عنى صير فهو مفهوله الثاني، والكلام على حد ضيق فم القربة إذ لم تكن الشمس خالية عن تلك الحالة وهي على ما قيل مأخوذة من شمسة القلادة للخرزة الكبيرة وسطها وسميت بذلك لأنها أعظم الكواكب كما تدل عليه الآثار ويشهد له الحس وإليه ذهب جمهور أهل الهيئة، ومنهم من قال: سميت بذلك لأنها في الفلك الأوسط بين أفلاك العلوية وبين أفلاك الثلاثة الأخر وهو أمر ظني لم تشهد له الأخبار النبوية كما ستعلمه قريبًا إن شاء الله تعالى. والضياء مصدر كقيام، وقال أبو علي في الحجة: كونه جمعًا كحوض وحياض وسوط وسياط أقيس من كونه مصدرًا. وتعقب بأن إفراد النور فيما بعد يرجح الأول، وياؤه منقلبة عن واو لإنكسار ما قبلها. وأصل الكلام جعل الشمس ذات ضياء.
ويجوز أن يجعل المصدر عنى اسم الفاعل أي مضيئة وأن يبقى على ظاهره من غير مضاف فيفيد المبالغة بجعلها نفس الضياء. وقرأ ابن كثير {ضئاء} بهمزتين بينهما ألف. والوجه فيه كما قال أبو البقاء: أن يكون أخر الياء وقدم الهمزة فلما وقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم وعند آخرين قلبت ألفا ثم قلبت الألف همزة لئلا يجتمع ألفان {والقمر نُورًا} أي ذا نور أو منيرًا أو نفس النور على حد ما تقدم آنفًا والنور قيل أعم من الضوء بناء على أنه ما قوى من النور والنور شامل للقوى والضعيف، والمقصود من قوله سبحانه: {الله نُورُ السموات والارض} [النور: 35] تشبيه هداه الذي نصبه للناس بالنور الموجود في الليل أثناء الظلام والمعنى أنه تعالى جعل هداه كالنور في الظلام فيهدي قوم ويضل آخرون ولو جعله كالضياء الذي لا يبقى معه ظلام لم يضل أحد. وهو مناف للحكمة وفيه نظر، وقيل: هما متباينان فما كان بالذات فهو ضياء وما كان بالعرض فهو نور، ولكون الشمس نيرة بنفسها نسب إليها الضياء ولكون نور القمر مستفادًا منها نسب إليه النور. وتعقبه العلامة الثاني بأن ذلك قول الحكماء وليس من اللغة في شيء فإنه شاع نور الشمس ونور النار ونحن قد بسطنا الكلام على ذلك فيما تقدم وفي كتابنا الطراز المذهب وأتينا بما فيه هدى للناطرين.
بقي أن حديث الاستفادة المذكورة سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرًا كما في المرآة أو بأن يستنير جوهره على ما هو الأشبه عند الإمام قد ذكرها كثير من الناس حتى القاضي في تفسيره وهو مما لم يجىء من حديث من عرج إلى السماء صلى الله عليه وسلم وإنما جاء عن الفلاسفة. وقد زعموا أن الأفلاك الكلية تسعة أعلاها فلك الأفلاك ثم فلك الثوابت ثم فلك كيوان ثم فلك برجيس. ثم فلك بهرام ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك الكاتب ثم فلك القمر، وزعم صاحب التحفة أن فلك الشمس تحت فلك الزهرة وما عليه الجمهور هو الأول، واستدل كثير منهم على هذا الترتيب بما يبقى معه الاشتباه بين الشمس وبين الزهرة والكاتب كالكسف والانكساف واختلاف المنظر الذي يتوصل إلى معرفته بذات الشعبتين لأن الأول لا يتصور هناك لأن الزهرة والكاتب يحترقان عند الاقتران في معظم المعمورة والثاني أيضًا مما لا يستطاع علمه بتلك الآلة لأنها تنصب في سطح نصف النهار وهذان الكوكبان لا يظهران هناك لكونهما حوالي الشمس بأقل من برجين فإذا بلغا نصف النهار كانت الشمس فوق الأرض شرقية أو غربية فلا يريان أصلًا، وجعل الشمس في الفلك الأوسط لما في ذلك من حسن الترتيب كأنها شمسة القلادة أو لأنها نزلة الملك في العالم فكما ينبغي للملك أن يكون في وسط العسكر ينبغي لها أن تكون في وسط كرات العالم أمر إقناعي بل هو من قبيل التمسك بجبال القمر، ومثل ذلك تمسكهم في عدم الزيادة على هذه الأفلاك بأنه لا فضل في الفلكيات مع أنه لزم عليه أن يكون ثخن الفلك الأعظم أقل ما يمكن أن يكون للأجسام من الثخانة إذ لا كوكب فيه حتى يكون ثخنه مساويًا لقطره فالزائد على أقل ما يمكن فضل. وقد بين في رسالة الأبعاد والإجرام أنه بلغ الغاية في الثخن. وقد قدمنا لك ذلك وحينئذ يمكن أن يكون لكل من الثوابت فلك على حدة وأن تكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبًا ومنطقة وسرعة بل لو قيل بتخالف بعضها لم يكن هناك دليل ينفيه لأن المرصود منها أقل قليل فيمكن أن يكون بعض ما لم يرصد متخالفًا على أن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الئوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل على ذلك بما استدل، ومن علم أن أرباب الارصاد منذ زمان يسير وجدوا كوكبًا سيارًا أبطأ سيرًا من زحل وسموه هرشلا وقد رصده لالنت فوجده يقطع البرج في ست سنين شمسية وأحد عشر شهرًا وسبعة وعشرين يومًا وهو ويوم تحريرنا هذا المبحث وهو اليوم الرابع والعشرون من جمادي الآخرة سنة الألف والمائتين والست والخمسين حيث الشمس في السنبلة قد قطع من الحوت درجة واحدة وثلاث عشرة دقيقة راجعًا لا يبقى له اعتماد على ما قاله المتقدمون، ويجوز أمثال ما ظفر به هؤلاء المتأخرون، وأيضًا من الجائز أن تكون الأفلاك ثمانية لإمكان كون جميع الثوابت مركوز في محدب ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أنه يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة وحينئذ تكون دائرة البروح المارة بأوائل البروج منتقلة بحركة الثامن غير منتقلة بحركة الممثل ليحصل انتقال الثوابت بحركة الممثل من برج إلى برج كما هو الواقع.
وقد صرح البرجندي أن القدماء لم يثبتوا الفلك الأعظم وإنما أثبته المتأخرون، وأيضًا يجوز أن تكون سبعة بأن يفرض الثوابت ودائرة البروج على ما محدب ممثل زحل ويكون هناك نفسان تتصل إحداهما جموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين الأوليين والأخرى بالكرة السابعة وتحكرها الأخرى ولكن بشرط أن تفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة كتحركها متوهمة على سطوح الممثلات بالسريعة دون البطيئة لينقل الثوابت بالبطيئة من برج إلى برج كما هو الواقع ونحن من وراء المنع فيما يرد على هذا الاحتمال، وأيضًا ذكر الإمام أنه لم لا يجوز أن تكون الثوابت تحت فلك القمر فتكون تحت كرات السيارة لا فوقها. وما يقال: من أنا نرى أن هذه السيارة تكسف الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة مدفوع بأن هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة دون القريبة من القطبين فلم لا يجوز أن يقال: هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوز في الفلك الثامن والقريبة من القطبين مركوز في كرة أخرى تحت كرة القمر. على أنه لم لا يجوز أن يقال: الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر ودون إثبات الامتناع خرط القتاد.
وذكروا في استفادة نور القمر من ضوء الشمس إنه من الحدسيات لاختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منها وذلك كما قال ابن الهيثم لا يفيد الجزم بالاستفادة لاحتمال أن يكون القمر كرة نصفها مضيء ونصفها مظلم ويتحرك على نفسه فيرى هلالا ثم بدرًا ثم ينمحق وهكذا دائمًا، ومقصوده أنه لابد من ضم شيء آخر إلى اختلاف الأشكال حسب القرب والبعد ليدل على المدعى وهو حصول الخسوف عند توسط الأرض بينه وبين الشمس. وبعض المحققين كصاحب حكمة العين وصاحب المواقف نقلوا ما نقلوا عن ابن الهيثم ولم يقفوا على مقصوده منه فقالوا: إنه ضعيف وإلا لما انخسف القمر في شيء من الاستقبالات أصلًا وذلك كما قال العاملي عجيب منهم، وأنت تعلم أن لا جزم أيضًا وأن ضم ما ضم لجواز أن يكون سبب آخر لاختلاف تلك الأشكال النورية لكنا لا نعلمه كأن يكون كوكب كمد تحت فلك القمر ينخسف به في بعض استقبالاته.
وإن طعن في ذلك بأنه لو كان لرؤي. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه بل ليس هناك إلا توسط الكاف والنون وهو كاف عند من سلمت عينه من الغين. وللمتشرعين من المحدثين وكذا لساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم كلمات شهيرة في هذا الشأن، ولعلك قد وقفت عليها وإلا فستقف بعد إن شاء الله تعالى.
وقد استندوا فيما يقولون إلى أخبار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الأخبار في ذلك لم تبلغ درجة الصحيح وما بلغ منها آحاد ومع هذا قابل للتأويل بما لا ينافي مذهب الفلاسفة والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك وأن القول به مما لا يضر بالدين إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم {هذا} وسمي القمر قميرًا لبياضه كما قال الجوهري، واعتبر هو وغيره كونه قمرًا بعد ثلاث.
{وَقَدَّرَهُ} أي قدر له وهيأ {مَنَازِلَ} أو قدر مسيره في منازل فمنازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر عنى جعل المتعدي لواحد و{مَنَازِلَ} حال من مفعوله أي جعله وخلقه متنقلًا وإن يكون عنى جعل المتعدي لاثنين أي صيره ذا منازل، وإيامًا كان فالضمير للقمر وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر، وجوز أن يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل ثمانية وعشرون وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء. والسماك الاعزل والعفرة والزباني والأكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الاثنى عشر المهشورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلثمائة وستين أجزاء دائرة البروج على اثنى عشر، والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي منقسمة بستين ثالثة وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها، ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثًا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة، وتسمية ما ذكرنا منازل مجاز لأنه عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة، والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال في المكان، فمعنى تزول القمر في هاتيك المنازل مسامتته إياها، وكذا تعتبر المسامتة في نزوله في البروج لأنها مفروضة أولا في الفلك الأعظم.
وأما تسمية نحو الحمل والثور والجوزة بذلك فباعتبار المسامتة أيضًا.
وكان أول المنازل الشرطين ويقال له النطح وهو لأول الحمل ثم تحركت حتى صار أولها على ما حرره المحققون من المتأخرين الفرغ المؤخر ولا يثبت على ذلك لأن للثوابت حركة على التوالي على الصحيح وإن كانت بطيئة وهي حركة فلكها، ومثبتو ذلك اختلفوا في مقدار المدة التي يقطع بها جزأ واحدًا من درجات منطقته فقيل هي ست وستون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية وطابقه الرصد الجديد الذي تولاه نصير الطوسي راغة، وزعم محيي الدين أحد أصحابه أنه تولى رصد عدة من الثوابت كعين الثور وقلب العقرب بذلك الرصد فوجدها تتحرك في كل ست وستين سنة شمسية درجة واحدة، وادعى بطليموس أنه وجد الثوابت القريبة إلى المنطقة متحركة في كل مائة سنة شمسية درجة والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال وهو المتصرف في ملكه وملكوته حسا يشاء {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين} التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية {والحساب} أي ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، واللام على ما يفهم من أمالي عز الدين بن عبد السلام متعلقة بقدر. واستشكل هو ذلك بأن علم العدد والحساب لا يفتقر لكون القمر مقدرًا بالمنازل بل طلوعه وغروبه كاف. وذكر بعضهم أن كمة ذلك صلاح الثمار بوقوع شعاع القمر عليها وقوعًا تدريجيًا، وكونه أدل على وجوده سبحانه وتعالى إذ كثرة اختلاف أحوال الممكن وزيادة تفاوت أوصافه أدعى إلى احتياجه إلى صانع حكيم واجب بالذات وغير ذلك مما يعرفه الواقفون على الاسرار؛ وأجاب مولانا سرى الدين بأن المراد من الحساب حساب الأوقات عرفة الماضي من الشهر والباقي منه وكذا من الليل ثم قال: وهذا إذا علقت اللام بقدره منازل منازل فإن علقته بجعل الشمس والقمر لم يرد السؤال.
ولعل الأولى على هذا أن يحمل {السنين} على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وان كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلثمائة وخمسة وستين يومًا وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الايلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلثمائة وأربعة وخمسين يومًا وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم كل منهما إلى بسيطة وكبيسة وبيان ذلك في محله، وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر في الأوقات المحسوبة، وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها عدد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثنى عشر شهرًا قد تحصل كل من ذلك من أيام معلومة قد تحصل كل منها من ساعات كذلك والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصيل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد، وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعًا، وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبىء عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من تلك الحيثية المذكورة أعني حيثية تحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها من عدة ساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث أنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك.
وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودًا وعلمًا على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين له علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصيل أمر آخر حسا حقق آنفا نازل من الحساب الذي اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب قاله شيخ الإسلام.
{مَا خَلَقَ الله ذلك} أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى سبحانه من الأحوال {إِلاَّ بالحق} استثناء من أعم أحوال الفاعل والمفعول، والباء للملابسة أي ما خلق ذلك ملتبسًا بشيء من الأشياء إلا ملتبسًا بالحق مراعيًا فيه الحكمة والمصلحة أو مراعى فيه ذلك فالمراد بالحق هنا خلاف الباطل والعبث {يُفَصّلُ الآيات} أي الآيات التكوينية المذكورة أو الأعم منها ويدخل المذكور دخولًا أوليًا أو نفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك. وقرئ {نُفَصّلُ} بنون العظمة وفيه التفات {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها.
وتخصيص التفصيل بهم على الاحتمالين لأنهم المنتفعون به، والمراد لقوم عقلاء من ذوي العلم فيعم من ذكرنا وغيرهم.


{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}
{إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار} تنبيه آخر اجمالي على ما ذكر أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين عند أكثر الفلاسفة لحركة الفلك الأعظم حول مركزه على خلاف التوالي فإنه يلزمها حركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب على ما تقدم مع سكون الأرض وهذا في أكثر المواضع وأما في عرض تسعين فلا يطلع شيء ولا يغرب بتلك الحركة أصلًا بل بحركات أخرى وكذا فيما يقرب منه قد يقع طلوع وغروب بغير ذلك وتسمى تلك الحركة الحركة اليومية وجعلها بعضهم بتمامها للأرض وجعل آخرون بعضها للأرض وبعضها للفلك الأعظم، والمشهور عند كثير من المحدثين أن الشمس نفسها تجري مسخرة بإذن الله تعالى في بحر مكفوف فتطلع وتغرب حيث شاء الله تعالى ولا حركة للسماء وإلى مثل ذلك ذهب الشيخ الأكبر قدس سره.
ويجوز أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده وهو ناشىء عنده من اختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربًا وبعدًا بسبب حركتها الثانية التي بها تختلف الأزمنة، وتنقسم السنة إلى فصول وقد يتساوى الليل والنهار في بعض الأزمان عند بعض وذلك إنما يكون إذا اتفق حلول الشمس نقطة الاعتدال عند الطلوع أو الغروب وكان الأوج في احد الاعتدالين فإنه إذا تحقق الأول كان قوس النهار كقوس الليل وإذا تحقق الثاني كان الأمر بالعكس وهذا نادر جدًا، ولا يمكن على ما ذهب إليه بطليموس من عدم حركة الأوج فلا يتساوى الليل والنهار عنده أصلًا، وقد يراد اختلافهما بحسب الأمكنة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وأما في أنفسهما فإن كرية الأرض على ما قالوا تقتضي أن تكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلًا وفي مقابله نهارًا.
{وَمَا خَلَقَ الله فِى السموات والارض} من المصنوعات المتقنة والآثار المحكمة {لايات} عظيمة كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال قدرته وبالغ حكمته التي من جملة مقتضياته ما أنكروا من إرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الرد {لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} الله تعالى ويحذرون من العاقبة، وخصصهم سبحانه بالذكر لأن التقوى هي الداعية للنظر والتدبر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8